بين قُدسيّة الأخلاقيّات أو شيطانيّة الواقع، بين الحرية والمسؤوليّة أو الخضوع والتبعيّة، بين تحكيم الضمير أو ملء "الجَيبة"، يصعب على عدد من الصحفيّين والإعلاميين الإختيار. بعضهم يؤجّرون ضميرهم ويُرسلون القيم إلى دوامة المجهول، بغية تأمين لقمة عيشهم أو التنعّم بالرفاهية. في حين أنّ البعض الآخر -ورغم أنّ عددهم أقل- لا يقبلون بالتخلّي عن تاج رأسهم لأيّ سبب كان، بل يقاومون جاهدين لكسب راحتهم وراحته.
من اختار من الصحافيين أن يُفلتَ من إملاءات تكبّلُه فيلحق بحرية يتنفّسُها، وُضع له ما يُعرف بـ"بند/شرط الضمير"، لحمايته من أيّ انتهاك للحقوق أو انتقاص للحريّات.
فبند الضمير أو "La Clause De Conscience" هو حقّ الصحفيّ الأجير، أيّاً كان مركزه، بإنهاء التزامه مع الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية الّتي يعمل بها وفسخ العقد معها ومغادرتها بمبادرة فرديّة منه ودون سابق إنذار، مع الحصول أو الإستفادة من مبلغ ماديّ قانونيّ يساوي التعويض الّذي كان سيحصل عليه في حالتيّ الفصل أو التسريح.
لفسخ العقد وفكّ الإرتباط أسباب عديدة، منها: أوّلاً، تغيير بارز وملحوظ في توجّهات المؤسسة الإعلامية أو في خطّها التحريريّ، ما قد يَمسُّ بكرامة الأجير وبمصالحه المعنويّة أو لا يتناسب مع سلّم قيمه. ثانياً، التخلّي، التّنازل أو بيع الجريدة أو الوسيلة الإعلامية للغَير. وثالثاً، توقّف نشر الجريدة لأيّ سبب كان.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المجلس التّحكيميّ هو المُشرف على تطبيق بند الضمير. وبالتالي، لتفعيل هذا البند، يكفي أن يوجّه الصّحفي رسالةً إلى الإدارة مُعلماً إيّاها بقراره وعارضاً الأسباب الموجبة التّي آلت به لممارسة هذا الحقّ. مع التنويه إلى أنّ بند ضمير الصحافيّين، يَسمَح لهم بالإمتناع عن إمضاء أيّ مقال لم يكتبوه بأنفسهم، والإعتراض على كلّ رأي مُغاير لقناعاتهم يُفرَض عليهم بالقوّة.
لكن في المقابل، هناك مؤسسات إعلامية وصحافيّون استأذنوا الأخلاقيات المهنية، ووضعوها على الرفّ، قبل أن يدخلوا في معركتهم الطاحنة. ففي الآونة الأخيرة، بتنا نلحظ حرباً مستعرةً بين المحطات التلفزيونية، حيث القنابل الكلامية أكثر أثراً وفتكاً من تلك اليدوية. وفي آخر جولات الحرب، نزعت القنوات عنها ثوب القيم والأخلاقيات الراقي، وانغمست في وساخة الإتهامات والتشهير و"نبش القبور".
تتحسّر كمشاهد كلّما قرّرت أن تتابع برنامجاً معيّناً على إحدى المحطات، بأنّك أصبحت شاهداً على انحطاط إعلامي يدّعي من يمارسه أنّه يحاول الإرتقاء بالمهنة وترفيه المشاهدين وإبعادهم عن ضبابية الواقع. فتكتشف أنّك شريك بحرب لا علاقة لك بها، ولكنّك في الكفّة المقابلة، مادة دسمة بالنسبة إليهم. كيف لا، وأنت في كلّ مرّة تشهد على إحدى معاركهم غير الشريفة، تساهم في زيادة نسبة المشاهدة وتساعدهم على الوصول إلى الهدف الأساسي من حربهم: "الرايتنغ".
وكلّما تبيّن بحسب الأرقام وشركات الإحصاء أنّ المواضيع المحرّمة أو "التابو"، ترفع نسب المشاهدة عند تناولها تلفزيونيّاً، كلّما شرعت القنوات إلى طرح المواضيع السياسية والجنسيّة والفضائحيّة من كلّ حدب وصوب، وأحياناً كثيرة مترافقة مع معالجات هشّة لا تحمل لا رسالة ولا حلّا، متظلّلة بحجّة توعية الرأي العام. هذا فضلاً عن استخدام مفردات وإيحاءات تخجل الأذن من سماعها، فقط لتلبية الغرائز الجنسية للمشاهد. وهذا للأسف يحقّق غالباً الهدف المنشود ويرفع "الرايتنغ" والأرقام الّتي باتت الحكم الأساسي.
ويا ليت الحرب توقّفت عند هذا الحدّ، إذ لا يخفى على أحد أنّ المحطات التلفزيونية، وكما نقول باللغة المحكيّة "ناطرة بعضها على الكوع". فعندما ترتكب محطة ما خطأ أو ذلّة، أو عندما تنجح محطة في كشف ملفّ متعلّق بمنافستها، نرى التشهير العلني والاتهامات المتبادلة والحقد الدفين، في محاولة لجذب المشاهدين وتشويه صورة المحطة الأخرى. وهذا يشكّل شرارة لإشعال حرب أو إطلاق جولة جديدة في حرب نحن ضحاياها، والأهم فيها بالنسبة إليهم، من ينجح أخيراً بالقول: كش ملك.
في المقلب الآخر، نلاحظ في جولة سريعة على عدد من التقارير و"الريبورتاجات" التلفزيونية، خرقاً فاضحاً لعدد من المعايير الأخلاقية الأساسية الّتي يجب أن تترافق مع "رسالة" الصحافة والإعلام. فعرض صور الجثث والأشلاء والدماء والمشاهد العنفية والإجرامية بات عاديّاً حتّى تصالح المشاهد مع فكرة الموت. مع الإشارة مثّلاً إلى أنّ تنظيم "داعش" الإرهابي ما كان لينجح بهذه السهولة في بناء "دولة" إفتراضية وخلق الذعر في النفوس، لو لم يقدّم له الإعلام بطاقة دخول مجانيّة إلى المنازل وساعده في نشر أخبار عن عملياته الإرهابيّة ومقاطع فيديو تعكس إجرامه وقذارة أساليبه في القتل.
هذا فضلاً عن إجراء مقابلات مع الأطفال دون أخذ إذن ذوي أمرهم أو الوصي عليهم ودون طمس هويتهم وصورتهم، كما تشترط المبادئ الأخلاقية المتَّبعة في إعداد التقارير الإعلاميّة حول الأطفال، الّتي وضعتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف". فالمنظمة الدولية، حدّدت ضرورة احترام كرامة جميع الأطفال في جميع الظروف، إيلاء اهتمام خاص بحقّ جميع الأطفال في الخصوصية الشخصية والسرِّية، حمايتهم من احتمالية أو إمكانية تعرضهم للأذى والعقاب، الإمتناع عن طلب العروض التمثيلية؛ وغيرها.
وأيضاً، مع غزو وسائل التواصل الإجتماعي لعالمنا وتحوّل السرعة إلى أبرز سمات المجتمعات، وتدفّق المعلومات بكمّ هائل، بات هدف عدد كبير من المؤسسات الإعلامية أن تتمكّن من جذب القارئ أو المتصفّح، من خلال اعتماد جزء منها على عناوين طنّانة ورنّانة غالباً ما لا تنقل محتوى الخبر بأمانة، بغية لفت انتباه القارئ الّذي أصبح يكتفي بقراءة العناوين دون الغوص بمضمون الخبر. وهذا يتعارض مع الأخلاقيات المهنية الّتي تقتضي بأن يكون العنوان واضحاً وخالياً من التضليل. هذا دون التطرق إلى هيمنة سلطة المال على معظم المؤسسات الإعلاميّة، وما تفرضه عليها من إملاءات وسياسات تحريريّة بعيدة عن المعايير الأخلاقية، سواء من جهة الموضوعيّة أو لجهة بثّ الأخبار الكاذبة أو الملفقة لمصلحة رأس المال.
التعميم لا يجوز بأي حال، وذلك لا بدّ من الإقرار بوجود صحفيين أحرار وجريئون ومسؤولون، لا يقبلون الخضوع لأيّ تعليمات أو الإمتثال لآراء تتبنّاها مؤسَّستهم وتتعارض مع أخلاقيّاتهم، يُعبّرون عن وجهات نظرهم ومعتقداتهم بحريّة، ولا يُبَدّون مصالحهم الماديّة أو الشخصيّة على أخلاقيّاتهم. ولحمايتهم، وُضعت تشريعات وبنود عديدة، هي سلاح بيدهم يُصوّبونه بوجه كلّ متعدّ على الحقوق. كما أنّ هناك مؤسسات إعلاميّة تكافح لإيصال صوت الحق الّذي يزعج الكثيرين وللحفاظ على الإعلام الّذي هو رسالة قبل أي يكون مهنة، وتفضّل التنحّي جانباً على أن تنحّي ضميرها جانباً. لكن الواقع الملموس، لا يسمح لنا إلّا بالإعتراف بأنّ العديد من الوسائل الإعلامية والعديد من الصحافيين أطلقوا الرصاصة القاضية على الأخلاقيات المهنية، وكانوا عاملاً في تشويه صورة الإعلام اللبناني الّذي كان رائداً في الفضاء الإعلامي العربي، ما دفع بالقيمين وحتّى المشاهدين إلى إعادة التفكير بمفهوم الحرية الإعلامية الّتي باتت حجّة تتلطّى خلفها كلّ التجاوزات. وفي هذا الإطار تُطرح بعض الأسئلة المشروعة، منها: أين دور المجلس الوطني للإعلام في تطبيق المعايير الأخلاقيّة الإعلاميّة؟ ألم يحن الوقت لتعديل قانون المطبوعات وقانون الإعلام؟ أين دور نقابة المحرّرين في حماية الصحافيين من الترهيب والضغط والمنافسة؟ وأين دور الصحافي في ممارسة الرقابة الذاتية، كون لا يزال هناك تضارب مواقف بالنسبة لمسألتي الرقابة السابقة واللاحقة؟!.